مقاطعة الديربي البيضاوي: صرخة جماهيرية ضد التهميش وغياب العدالة الرياضية
في لحظة فارقة في تاريخ الكرة المغربية، أعلنت فصائل إلتراس الرجاء والوداد مقاطعتها الرسمية للديربي البيضاوي، احتجاجاً على واقع مأزوم يعيشه قطبا العاصمة الاقتصادية. هذا القرار التاريخي لا يعكس فقط رفضاً للأوضاع المزرية التي تمر بها الكرة المغربية في بعدها المحلي، بل يُترجم وعياً جماهيرياً غير مسبوق، تَجسَّد في موقف موحد يتجاوز الصراع الرياضي إلى أرضية نضالية مشتركة ضد التهميش والقرارات الارتجالية، وعلى رأسها إغلاق ملعب محمد الخامس، القلب النابض لكرة القدم المغربية، دون توفير بدائل حقيقية.
لقد كانت المدرجات دائماً مصدر قوة للرجاء والوداد، واليوم اختارت الجماهير أن تعبّر بصمتها المدوي عن سخطها ورفضها، لتؤكد أن صوتها لا يُختزل في الأهازيج، بل يمتد إلى قلب النقاش العمومي حين يتعلق الأمر بمصير ناديين شكّلا عمقاً تاريخياً واجتماعياً وثقافياً في المشهد الوطني.
الديربي البيضاوي.. أكثر من مجرد مباراة
الديربي بين الرجاء والوداد ليس مجرد حدث رياضي عابر، بل هو ظاهرة اجتماعية وثقافية واقتصادية. على مدى عقود، شكلت هذه المباراة واحدة من أكبر التظاهرات الجماهيرية في العالم العربي وإفريقيا. مئات الآلاف يتابعونه، وعشرات الآلاف يتدفقون على مدرجات "دونور" في مشهد يُجسّد عشقاً لا يُضاهى.
ورغم التنافس الشرس، فإن الديربي البيضاوي يوحّد المدينة في لحظة استثنائية. هو فرصة لبروز الإبداع الجماهيري من خلال التيفوهات، والأهازيج، والرسائل الرمزية. لكن ماذا يعني غياب هذا الحدث؟
غياب الديربي أو مقاطعته يفقد البطولة الوطنية أحد أبرز أعمدتها، ويُضعف إشعاعها الإعلامي، ويُؤثر على العائدات المالية للفرق والرعاة والجامعة. وبالتالي، فإن قرار المقاطعة ليس عاطفياً، بل مدروس وله تبعاته الجدية.
أسباب المقاطعة الجماهيرية للديربي البيضاوي
الأسباب المباشرة:
أول الأسباب المعلنة كانت قرار إغلاق ملعب محمد الخامس بدعوى الإصلاحات، لسنتين كاملتين، دون أن تُعرض بدائل ملموسة أو جدول زمني دقيق، ما جعل الجماهير تشعر بأنها غير محترمة، وكأن الأندية ليست سوى رقم في معادلة تسييرية فوضوية.
كذلك، لم تُخصص تعويضات مادية أو لوجستية تضمن استمرارية المنافسة، ما أثر على نتائج الرجاء والوداد، وخلق جواً من الارتباك في برمجة المباريات والتنقلات.
الأسباب العميقة:
وراء ذلك كله، يختفي شعور متراكم لدى جماهير الناديين بالإقصاء والتهميش. كيف يعقل أن يتم اتخاذ قرار بهذا الحجم دون استشارة الأطراف المعنية؟ ولماذا لا تتوفر مشاريع جاهزة بديلة؟ ولماذا تظل الجامعة ومجلس المدينة في صمت شبه مطبق أمام احتجاجات الجمهور؟
الإحباط الجماهيري لا يرتبط فقط بالملعب، بل أيضاً بنظرة دونية تُعامل بها هذه القواعد العريضة التي تُملأ بها الملاعب وتُسوّق بها المنتوج الكروي، دون أن تُحترم كقوة اقتراح وضغط.
إغلاق ملعب محمد الخامس: بين الإصلاحات والتساؤلات
ملعب محمد الخامس ليس مجرد منشأة رياضية، بل ذاكرة جماعية، وفضاء رمزي، شهد أعظم اللحظات الكروية المغربية. قرار إغلاقه، دون توضيح شفاف لمراحل الإصلاح، ودون أن تتاح الفرصة للرأي العام لمتابعة تقدم الأشغال أو الاطلاع على دفاتر التحملات، جعل من المشروع أشبه بـ"الورشة الغامضة".
وما يزيد الوضع غموضاً هو أن ملاعب أخرى في المغرب، كمجمع الأمير مولاي عبد الله بالرباط أو ملعب بركان، تم تأهيلها في مدد قياسية. فهل يعقل أن يُغلق "دونور" لسنتين كاملتين في مدينة تُعد القلب الاقتصادي للبلاد دون تبرير مقنع؟
الانعكاسات السلبية على الرجاء والوداد
رياضياً:
الابتعاد عن ملعب محمد الخامس أفقد الفريقين أهم سلاح لهما: الجمهور. لا يمكن الحديث عن الرجاء أو الوداد دون مدرجات "المكانة" و"الماغانا". هذا الغياب أثّر على نتائج الأندية، وخلق حالة من التذبذب وعدم الاستقرار.
إدارياً ومالياً:
انخفضت مداخيل التذاكر، وارتفعت تكاليف التنقل، وتراجع الحضور الجماهيري في الملاعب البديلة. كما واجهت الإدارات صعوبة في تسويق المباريات وجذب الرعاة، خصوصاً أن القيمة التسويقية للديربي مرتبطة بالموقع التاريخي لـ"دونور".
الأندية المنافسة، وعلى رأسها نهضة بركان، استفادت من هذا الوضع، حيث فقد الرجاء والوداد عنصر الأرض والجمهور، مما سهل الطريق أمام المنافسين.
وحدة الجمهور: صوت واحد في وجه التهميش
رغم العداء الكروي، استطاعت الجماهير أن تتجاوز خلافاتها، وتُوحّد موقفها احتجاجاً على قرارات فوقية لا تُراعي مصلحة الأندية.
فصائل الإلتراس، التي طالما رفعت شعارات التحدي، رفعت هذه المرة شعاراً واحداً: "نحن لسنا أداة للتسويق بل ركيزة أساسية في الرياضة الوطنية". هذه الوحدة تعبّر عن وعي جماعي ونضج سياسي رياضي يُحسب للجمهور المغربي.
الرسالة التي أرادت الجماهير إيصالها واضحة: إذا لم يتم احترام صوت المدرج، فلن يبقى له أثر يُجمّل الصورة.
صرخة مدوية ورسالة سياسية ورياضية
قرار المقاطعة لم يكن فقط موقفاً رياضياً، بل حمّل بعداً سياسياً ضمنياً. إنه احتجاج ضد غياب الشفافية، وسوء التسيير، وتهميش القواعد الشعبية.
الجمهور اليوم يطالب بأن يكون شريكاً لا مستهلكاً فقط. يرفض أن يُستعمل لتزيين صور السياسيين أو دعم أجندات انتخابية، دون أن يكون له رأي في ما يجري.
الرجاء والوداد لن يموتا.. والمقاطعة بداية الوعي
الرجاء والوداد أكبر من ملعب ومن بطولة، هما تاريخ يُكتب كل أسبوع من المدرجات إلى الشوارع. المقاطعة قد تبدو صمتاً، لكنها في العمق صرخة وعي، وتأكيد على أن الكرة ليست فقط ما يجري فوق العشب، بل أيضاً ما يفيض من القلوب والعقول.
ستعود الجماهير، وستُفتح المدرجات من جديد، لكن بعد أن تكون الرسالة قد وصلت: لا رياضة بدون جمهور، ولا قرار دون مشاورة.
الرجاء والوداد لن يموتا، بل سيعودان أقوى كما كانا دائماً، بأصوات جماهير لا تسكت عن الحق، ولا تقبل بالتهميش.